مقدّمة

 
عندما تفجّرت ملامح ظاهرة التحرّش الجنسي في مصر قبل عدة سنوات وبصورة صادمة، وتحرّكت من حيّز المسكوت عنه إلى حيّز الوعي المجتمعي والاعتراف العام، أصبحت قضية تشغل الرأي العام وتنال قدر كبير من التركيز الإعلامي. ومنذ ذلك الحين لم تصدُر سوى دراسة إحصائية قيّمة واحدة هي دراسة "غيوم في سماء مصر" الصادرة عن المركز المصري لحقوق المرأة، والتي نالت القدر الأكبر من التناول، وأصبحت تكاد تكون هي المرجعية الوحيدة ليس فقط لدى الإعلام المصري ولكن حتى لدى وسائل الإعلام العالمي الذي غالباً ما يشير لها في مقالاته التي تتناول أية أحداث جديدة تنتمى للظاهرة وقعت على امتداد السنوات الماضية منذ ظهور الدراسة وحتى يومنا الحالي.

وأذكر أنني عند انفجار ما سُمّي بظاهرة "السعار الجنسي" قبل عدة سنوات والتي فاجأتنا جميعا، تصفّحت على مواقع سياحية موقف التقييم السياحي والأمني لمصر ، وكان المُلفت آنذاك هو أن مختلف المواقع السياحية المتخصصة في تقديم نصائح للمسافرين بناء عل تقييمات وتجارب السائحين السابقين، مثل موقعي virtualTourist و TripAdviser، كانا يعتبران مصر من بين أكثر الوجهات السياحية أمنا حتى للسائحات العزباوات المسافرات بمفردهن. وكانت نصائح تلك المواقع تقتصر على لفت انتباه السائحات إلى الثقافة المحلية، وتنصحهن بارتداء ملابس تتناسب مع الثقافة المحلية، وتعمل على تجنُّب جذب الاهتمام غير المرغوب، إلى جانب النصائح السلوكية العامة حول ما قد يكون مقبولاً في بعض الثقافات مُستهجناً في غيرها. وعندما نتصفح نفس تلك المواقع الآن نجدها تشير إلى تحذير السائحين من استفحال ظاهرة التحرش الجنسي في مصر، مُشيرةً إلى نفس الدراسة التي أُجريت قبل عدة سنوات، حتى أن أحد تلك المواقع يشير إلى ذلك في سياق اعتباره قصوراً عن تقديم رؤية أكثر حداثة للظاهرة.

أمّا في الداخل المصري فقد ظلت الدراسة المُشار لها طوال تلك السنوات مرجعية وحيدة للظاهرة، مما دفعنا عند اختيار موضوع للبحث والدراسة إلى اختيار تلك الظاهرة لتكون مادةً للدراسة من أجل الإسهام في الجهود المجتمعية الرامية إلى مواجهة التحرّش الجنسي. وقد قررنا تسليط الضوء على جانب من جوانب تلك الظاهرة البشعة آملين أن تُسهم دراسته وتحليله في تحقيق مزيد من الفهم والاستيعاب لمختلف عناصرها.

من بين الجوانب المتداخلة لتلك الظاهرة، اخترنا جانباً جدلياً وخلافياً غالباً ما يتم الإشارة إليه عند أية تناول لظاهرة التحرُّش الجنسي في مصر، بل وفي العالم. وهو البحث في حقيقة وجود أو عدم وجود علاقة بين ملابس المرأة من ناحية وبين التحرُّش الجنسي من ناحية أخرى. وبرغم أن تلك القضية قد تبدو محسومة لدى الكثيرين سواء بالقبول أو بالرفض، إلا أنها تشكّل مادةً خلافية ذات طابع عالمي. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة بريطانية أُجريت بين طلاب وطالبات الجامعة في Wales أن واحداً من بين كل أربعة طلاب يعتقدون أن جزء من المسئولية يقع على عاتق الفتاة التي تعرّضت للاغتصاب إذا كانت ترتدي ملابس مثيرة! وفي كندا أثارت عبارة ألقاها ضابط شرطة كندي جدلاً واسعاً، وذلك عندما تطرّق إلى نصائح عامة لتجنّب التحرُّش الجنسي في محاضرة عن السلامة الشخصية كان يُلقيها أمام طلاب وطالبات الجامعة. إذ نصح ضابط الشرطة الفتيات صراحةً من أجل تجنب التحرُّش الجنسي بعدم ارتداء ملابس "تشبه ملابس فتيات الليل"! وجميع تلك المواقف وغيرها تعكس أن فكرة الربط بقدر ما بين ملابس المرأة وبين التعرُّض إلى التحرش الجنسي هي احتمالية مطروحة للجدل في مختلف الثقافات والمجتمعات رغم ما تلقاه من رفض واستهجان مجتمعي. وكل ذلك يتطلّب تكريس قدر كبير من البحث الحيادي والمِهني لدراسة واستبيان حقيقة ما إذا كان المظهر هو أحد العوامل المساعدة في انتشار تلك الظاهرة المُبتذلة، ذلك أن وضع استراتيجيات فاعلة وعملية وطويلة الأمد لمواجهتها والتخلُّص منها ينبغي أن يكون نتيجة استيعاب واقعي واستقراء أمين وجهد صادق في رصد وتحليل وتمحيص كل جانب مُحتمل من جوانبها، وكل عامل مُحتمل من العوامل المساعدة على انتشارها، بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا لما تُسفر عنه تلك الجهود من نتائج.

كذلك اهتمت دراستنا بقياس ومقارنة مستوى الوعي المجتمعي السائد بظاهرة التحرّش الجنسي وبين حجم تلك الظاهرة. حيث أن حالة الإنكار المجتمعي لمثل تلك الظواهر عادةً ما يقف عائقاً أمام مواجهتها بشكل فاعل، كما قد تكون له تبعاته النفسية على ضحايا تلك الظاهرة وإحساسهن بالاضطهاد نظراً لشعورهنّ بمعاناة يُقلّل المجتمع من حجمها ويعجز عن إدراكها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق